فصل: تفسير الآيات رقم (6- 19)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الماوردي المسمى بـ «النكت والعيون» ***


سورة الليل

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى ‏(‏1‏)‏ وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى ‏(‏2‏)‏ وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى ‏(‏3‏)‏ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى ‏(‏4‏)‏ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى ‏(‏5‏)‏ وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى ‏(‏6‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى ‏(‏8‏)‏ وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى ‏(‏9‏)‏ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ‏(‏10‏)‏ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏واللّيلِ إذا يَغْشَى‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ إذا أظلم، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ غطى وستر، قاله ابن جبير‏.‏

الثالث‏:‏ إذا غشى الخلائق فعّمهم وملأهم، قاله قتادة، وهذا قَسَم‏.‏

‏{‏والنّهارِ إذا تَجَلّى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إذا أضاء، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ إذا ظهر، وهو مقتضى قول ابن جبير‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ إذا أظهر ما فيه من الخلق، وهذا قسم ثانٍ‏.‏

‏{‏وما خَلَقَ الذّكّرّ والأُنثى‏}‏ قال الحسن‏:‏ معناه والذي خلق الذكر والأنثى فيكون هذا قسماً بنفسه تعالى‏.‏

ويحتمل ثانياً‏:‏ وهو أشبه من قول الحسن أن يكون معناه وما خلق من الذكر والأنثى، فتكون «من» مضمرة المعنى محذوفة اللفظ، وميزهم بخلقهم من ذكر وأنثى عن الملائكة الذين لم يخلقوا من ذكر وأنثى، ويكون القسم بأهل طاعته من أوليائه وأنبيائه، ويكون قسمه بهم تكرمة لهم وتشريفاً‏.‏

وفي المراد بالذكر والأنثى قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ آدم وحواء، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ من كل ذكر وأنثى‏.‏

فإن حمل على قول الحسن فكل ذكر وأنثى من آدمي وبهيمة، لأن الله خلق جميعهم‏.‏

وإن حمل على التخريج الذي ذكرت أنه أظهر، فكل ذكر وأنثى من الآدميين دون البهائم لاختصاصهم بولاية الله وطاعته، وهذا قسم ثالث‏:‏

‏{‏إنّ سَعْيَكم لشَتّى‏}‏ أي مختلف، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لمختلف الجزاء، فمنكم مثاب بالجنة، ومنكم معاقب بالنار‏.‏

الثاني‏:‏ لمختلف الأفعال، منكم مؤمن وكافر، وبر وفاجر، ومطيع وعاص‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ لمختلف الأخلاق، فمنكم راحم وقاس، وحليم وطائش، وجواد وبخيل، وعلى هذا وقع القسم‏.‏

وروى ابن مسعود أن هذه الآية نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، وفي أمية وأبّي ابني خلف حين عذّبا بلالاً على إسلامه، فاشتراه أبو بكر، ووفي ثمنه بردةً وعشر أوراقٍ، وأعتقه للَّه تعالى، فنزل ذلك فيه‏.‏

‏{‏فأمّا من أَعْطَى واتّقَى‏}‏ قال ابن مسعود يعني أبا بكر‏.‏

وفي قوله «أعطى» ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من بذل ماله، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ اتقى محارم الله التي نهى عنها، قال قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ اتقى البخل، قاله مجاهد‏.‏

‏{‏وصَدَّق بالحُسْنَى‏}‏ فيه سبعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ بتوحيد الله، وهو قول لا إله إلا الله، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ بموعود الله، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ بالجنة، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ بالثواب، قاله خصيف‏.‏

الخامس‏:‏ بالصلاة والزكاة والصوم، قاله زيد بن أسلم‏.‏

السادس‏:‏ بما أنعم الله عليه، قاله عطاء‏.‏

السابع‏:‏ بالخلف من عطائه، قاله الحسن، ومعاني أكثرها متقاربة‏.‏

‏{‏فَسَنُيَسِّرُهُ لليُسْرىَ‏}‏ فيه تأويلان‏:‏

أحدهما‏:‏ للخير، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ للجنة، قاله زيد بن أسلم‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ فسنيسر له أسباب الخير والصلاح حتى يسهل عليه فعلها‏.‏

‏{‏وأمّا مَنْ بَخِلَ واسْتَغنَى‏}‏ قال ابن مسعود‏:‏ يعني بذلك أُمية وأبيّاً ابني خلف‏.‏ وفي قوله «بخل» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بخل بماله الذي لا يبقى، قاله ابن عباس والحسن‏.‏

الثاني‏:‏ بخل بحق الله تعالى، قاله قتادة‏.‏

«واستغنى» فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بماله، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ عن ربه، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وكَذَّبَ بالحُسْنَى‏}‏ فيه التأويلات السبعة‏.‏

‏{‏فَسنُيَسِّرُهُ للعُسْرَى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ للشر من الله تعالى، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ للنار، قاله ابن مسعود‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ فسنعسر عليه أسباب الخير والصلاح حتى يصعب عليه فعلها فعند نزول هاتين الآيتين يروي قتادة عن خليد عن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وملكان يناديان‏:‏ اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً»، ثم قرأ ‏{‏فأما من أعطى واتقى‏}‏‏.‏

الآية والتي بعدها‏.‏

‏{‏وما يُغْنِي عنه ماله إذا تَرَدَّى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إذا تردّى في النار، قاله أبو صالح وزيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ إذا مات فتردى في قبره، قاله مجاهد وقتادة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ إذا تردى في ضلاله وهوى في معاصيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏12- 21‏]‏

‏{‏إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى ‏(‏12‏)‏ وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى ‏(‏13‏)‏ فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى ‏(‏14‏)‏ لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى ‏(‏15‏)‏ الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏16‏)‏ وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى ‏(‏17‏)‏ الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى ‏(‏18‏)‏ وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى ‏(‏19‏)‏ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى ‏(‏20‏)‏ وَلَسَوْفَ يَرْضَى ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏إنّ علينا لَلْهُدَى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن نبيّن سبل الهدى والضلالة قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ بيان الحلال والحرام، قاله قتادة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ علينا ثواب هداه الذي هدينا‏.‏

‏{‏وإنَّ لنا لَلآخِرةَ والأُولى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ثواب الدنيا والآخرة، قاله الكلبي والفراء‏.‏

الثاني‏:‏ ملك الدنيا وملك الآخرة، قاله مقاتل‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ الله المُجازي في الدنيا والآخرة‏.‏

‏{‏فأنذَرْتُكم ناراً تَلَظَّى‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه تتغيظ، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ تشتعل، قاله مقاتل‏.‏

الثالث‏:‏ تتوهج، قاله مجاهد، وأنشد لعلّي رضي الله عنه‏:‏

كأن الملح خالطه إذا ما *** تلظّى كالعقيقة في الظلال

‏{‏لا يَصلاها إلا الأشْقَى‏}‏ أي الشقّي‏.‏

‏{‏والذي كذّب وتولّى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كذّب بكتاب الله وتولّى عن طاعة الله، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ كذّب الرسولَ وتولّى عن طاعته‏.‏

‏{‏وما لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمةٍ تُجْزَى * إلا ابتغاءَ وجهِ ربِّه الأَعْلَى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وما لأحد عند الله تعالى من نعمة يجازيه بها إلا أن يفعلها ابتغاء وجه ربه فيستحق عليها الجزاء والثواب، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ وما لبلال عند أبي بكر حين اشتراه فأعتقه من الرق وخلّصه من العذاب نعمةٌ سلفت جازاه عليها بذلك إلا ابتغاء وجه ربه وعتقه، قاله ابن عباس وابن مسعود ‏{‏ولَسوفَ يَرْضَى‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يرضى بما أعطيه لسعته‏.‏

الثاني‏:‏ يرضى بما أعطيه لقناعته، لأن من قنع بغير عطاء كان أطوع لله‏.‏

سورة الضحى

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالضُّحَى ‏(‏1‏)‏ وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى ‏(‏2‏)‏ مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ‏(‏3‏)‏ وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى ‏(‏4‏)‏ وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ‏(‏5‏)‏ أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى ‏(‏6‏)‏ وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ‏(‏7‏)‏ وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى ‏(‏8‏)‏ فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ ‏(‏9‏)‏ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ ‏(‏10‏)‏ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏والضُّحَى‏}‏ هو قَسَمٌ، وفيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أول ساعة من النهار إذا ترحلت الشمس، قاله السدي‏.‏

الثاني‏:‏ أنه صدر النهار، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ هو طلوع الشمس، قاله قطرب‏.‏

الرابع‏:‏ هو ضوء النهار في اليوم كله، مأخوذ من قولهم ضحى فلان الشمس، إذا ظهر لها، قاله مجاهد، والاشتقاق لعلي بن عيسى‏.‏

‏{‏والليلِ إذا سَجى‏}‏ وهو قَسَم ثان، وفيه خمسة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ إذا أقبل، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ إذا أظلم، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ إذا استوى، قاله مجاهد‏.‏

الرابع‏:‏ إذا ذهب، قاله ابن حنطلة عن ابن عباس‏.‏

الخامس‏:‏ إذا سكن الخلق فيه، قاله عكرمة وعطاء وابن زيد، مأخوذ من قولهم سجى البحر إذا سكن، وقال الراجز‏:‏

يا حبذا القمراءُ والليلِ الساج *** وطُرُقٌ مِثْلُ ملاءِ النسّاج

‏{‏ما ودَّعَكَ ربُّكَ وما قَلَى‏}‏ اختلف في سبب نزولها، فروى الأسود بن قيس عن جندب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رُمي بحجر في إصبعه فدميت، فقال‏:‏

هل أنت إلاّ أصبعٌ دَميتِ *** وفي سبيل اللَّه ما لَقِيتِ

قال فمكث ليلتين أو ثلاثاً لا يقوم، فقالت له امرأة يا محمد ما أرى شيطانك إلا قد تركك، فنزل عليه‏:‏ ‏{‏ما ودعك ربك وما قلى‏}‏‏.‏ وروى هشام عن عروة عن أبيه قال‏:‏ أبطأ جبريل عن النبي صلى الله عليه وسلم فجزع لذلك جزعاً شديداً، قالت عائشة‏:‏ فقال كفار قريش‏:‏ إنا نرى ربك قد قلاك، مما رأوا من جزعه، فنزلت‏:‏ ‏{‏ما ودعك ربك وما قلى‏}‏، وروى ابن جريج أن جبريل لبث عن النبي صلى الله عليه وسلم اثنا عشرة ليلة فقال المشركون‏:‏ لقد ودع محمداً ربُّه، فنزلت‏:‏ ‏{‏ما ودعك ربك وما قلى‏}‏‏.‏

وفي «وَدَّعَك» قراءتان‏:‏

أحدهما‏:‏ قراءة الجمهور ودّعك، بالتشديد، ومعناها‏:‏ ما انقطع الوحي عنك توديعاً لك‏.‏

والثانية‏:‏ بالتخفيف، ومعناها‏:‏ ما تركك إعراضاً عنك‏.‏

«وما قلى» أي ما أبغضك، قال الأخطل‏:‏

المهْديات لمن هوين نسيئةً *** والمحْسِنات لمن قَلَيْنَ مقيلاً

‏{‏ولَلآخرةُ خير لك مِنَ الأُولى‏}‏ روى ابن عباس قال‏:‏ عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أمته من بعده، فسُرّ بذلك، فأنزل الله تعالى‏:‏ «وللآخرة خير لك من الأُولى» الآية‏.‏

وفي قوله ‏{‏وللآخرة خير لك من الأولى‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ وللآخرة خير لك مما أعجبك في الدنيا، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أن مآلك في مرجعك إلى الله تعالى أعظم مما أعطاك من كرامة الدنيا، قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏ولسوف يُعْطيك ربُّك فَتَرْضَى‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ يعطيك من النصر في الدنيا، وما يرضيك من إظهار الدين‏.‏

الثاني‏:‏ يعطيك المنزلة في الآخرة، وما يرضيك من الكرامة‏.‏

‏{‏ألمْ يَجِدْك يتيماً فآوَى‏}‏ واليتيم بموت الأب، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أبويه وهو صغير، فكفله جده عبد المطلب، ثم مات فكفله عمه أبو طالب، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد يتم الأبوة بموت من فقده من أبويه، فعلى هذا في قوله تعالى «فآوى» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي جعل لك مأوى لتربيتك، وقيمّاً يحنو عليك ويكفلك وهو أبو طالب بعد موت عبد الله وعبد المطلب، قاله مقاتل‏.‏

الثاني‏:‏ أي جعل لك مأوى نفسك، وأغناك عن كفالة أبي طالب، قاله الكلبي‏.‏

والوجه الثاني‏:‏ أنه أراد باليتيم الذي لا مثيل له ولا نظير، من قولهم درة يتيمة، إذا لم يكن لها مثيل، فعلى هذا في قوله «فآوى» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فآواك إلى نفسه واختصك برسالته‏.‏

الثاني‏:‏ أن جعلك مأوى الأيتام بعد أن كنت يتيماً، وكفيل الأنام بعد أن كنت مكفولاً، تذكيراً بنعمه عليه، وهو محتمل‏.‏

‏{‏وَوَجَدَكَ ضالاًّ فَهَدَى‏}‏ فيه تسعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ وجدك لا تعرف الحق فهداك إليه، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ ووجدك ضالاً عن النبوة فهداك إليها، قاله الطبري‏.‏

الثالث‏:‏ ووجد قومك في ضلال فهداك إلى إرشادهم، وهذا معنى قول السدي‏.‏

الرابع‏:‏ ووجدك ضالاً عن الهجرة فهداك إليها‏.‏

الخامس‏:‏ ووجدك ناسياً فأذكرك، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏أن تَضِل إحداهما‏}‏‏.‏

السادس‏:‏ ووجدك طالباً القبلة فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى الطلب، لأن الضال طالب‏.‏

السابع‏:‏ ووجدك متحيراً في بيان من نزل عليك فهداك إليه، فيكون الضلال بمعنى التحير، لأن الضال متحير‏.‏

الثامن‏:‏ ووجدك ضائعاً في قومك فهداك إليه، ويكون الضلال بمعنى الضياع، لأن الضال ضائع‏.‏

التاسع‏:‏ ووجدك محباً للهداية فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة، ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قالوا تاللَّه إنك لفي ضلالك القديم‏}‏ أي في محبتك، قال الشاعر‏:‏

هذا الضلال أشاب مِنّي المفرقا *** والعارِضَيْن ولم أكنْ مُتْحقّقاً

عَجَباً لَعِزّةَ في اختيارِ قطيعتي *** بعد الضّلالِ فحبْلُها قد أخْلقاً

وقرأ الحسن‏:‏ ووجدَك ضالٌّ فهُدِي، أي وجَدَك الضالُّ فاهتدى بك، ‏{‏ووجَدَك عائلاً فأَغْنَى‏}‏ فيه أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ وجدك ذا عيال فكفاك، قاله الأخفش، ومنه قول جرير‏:‏

الله أنْزَلَ في الكتابِ فَرِيضةً *** لابن السبيل وللفقير العائلِ

الثاني‏:‏ فقيراً فيسَّر لك، قاله الفراء، قال الشاعر‏:‏

وما يَدْري الفقيرُ متى غناه *** وما يَدْري الغنيُّ متى يَعيِلُ

أي متى يفتقر‏.‏

الثالث‏:‏ أي وجدك فقيراً من الحُجج والبراهين، فأغناك بها‏.‏

الرابع‏:‏ ووجدك العائلُ الفقير فأغناه الله بك، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بصوته الأعلى ثلاث مرات‏:‏ «يَمُنّ ربي عليّ وهو أهلُ المَنّ»

‏{‏فأمّا اليتيمَ فلا تَقْهَرْ‏}‏ فيه خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فلا تحقر، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ فلا تظلم، رواه سفيان‏.‏

الثالث‏:‏ فلا تستذل، حكاه ابن سلام‏.‏

الرابع‏:‏ فلا تمنعه حقه الذي في يدك، قاله الفراء‏.‏

الخامس‏:‏ ما قاله قتادة‏:‏ كن لليتيم كالأب الرحيم، وهي في قراءة ابن مسعود‏:‏ فلا تكْهَر، قاله أبو الحجاج‏:‏ الكهر الزجر‏.‏

روى أبو عمران الجوني عن أبي هريره أن رجلاً شكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قسوة قلبه، فقال‏:‏ «إن أردت أن يلين قلبك فامسح رأس اليتيم وأطْعِم المسكينَ»

‏{‏وأَمّا السائلَ فلا تَنْهَر‏}‏ في رده إن منعته، ورُدّه برحمة ولين، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ السائل عن الدين فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجِبْهُ برفق ولين، قاله سفيان‏.‏

‏{‏وأمّا بِنَعْمِة ربِّكَ فحدِّثْ‏}‏ في هذه النعمة ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ النبوة، قاله ابن شجرة، ويكون تأويل قوله فحدث أي ادعُ قومك‏.‏

الثاني‏:‏ أنه القرآن، قاله مجاهد، ويكون قوله‏:‏ فحدث أي فبلّغ أمتك‏.‏

الثالث‏:‏ ما أصاب من خير أو شر، قاله الحسن‏.‏

«فحدث» فيه على هذا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ فحدّث به الثقة من إخوانك، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ فحدِّث به نفسك، وندب إلى ذلك ليكون ذِكرها شكراً‏.‏

سورة الشرح

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ‏(‏1‏)‏ وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ ‏(‏2‏)‏ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ ‏(‏3‏)‏ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ‏(‏4‏)‏ فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا ‏(‏6‏)‏ فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ ‏(‏7‏)‏ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏أَلمْ نَشْرَحْ لك صَدْرَكَ‏}‏ وهذا تقرير من الله تعالى لرسول صلى الله عليه وسلم عند انشراح صدره لما حمله من نبوّته‏.‏

وفي «نشرح» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أي أزال همك منك حتى تخلو لما أُمِرت به‏.‏

الثاني‏:‏ أي نفتح لك صدرك ليتسع لما حملته عنه فلا يضيق، ومنه تشريح اللحم لأنه فتحه لتقديده‏.‏

وفيما شرح صدره ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الإسلام، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ بأن ملئ حكمة وعلماً، قاله الحسن‏.‏

الثالث‏:‏ بما منّ عليه من الصبر والاحتمال، قاله عطاء‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ بحفظ القرآن وحقوق النبوّة‏.‏

‏{‏ووَضَعْنا عنك وِزْرَكَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ وغفرنا لك ذنبك، قاله مجاهد، وقال قتادة‏:‏ كان للنبي ذنوب أثقلته فغفرها الله تعالى له‏.‏

الثاني‏:‏ وحططنا عنك ثقلك، قاله السدي‏.‏ وهي في قراءة ابن مسعود، وحللنا عنك وِقرك‏.‏

الثالث‏:‏ وحفظناك قبل النبوة في الأربعين من الأدناس حتى نزل عليك الوحيُ وأنت مطهر من الأدناس‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أي أسقطنا عنك تكليف ما لم تُطِقْه، لأن الأنبياء وإن حملوا من أثقال النبوة على ما يعجز عنه غيرهم من الأمة فقد أعطوا من فضل القوة ما يستعينون به على ثقل النبوة، فصار ما عجز عنه غيرهم ليس بمطاق‏.‏

‏{‏الذي أنقَضَ ظَهْرَكَ‏}‏ أي أثقل ظهرك، قاله ابن زيد كما ينقض البعير من الحمل الثقيل حتى يصير نِقْضاً‏.‏

وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أثقل ظهره بالذنوب حتى غفرها‏.‏

الثاني‏:‏ أثقل ظهره بالرسالة حتى بلّغها‏.‏

الثالث‏:‏ أثقل ظهره بالنعم حتى شكرها‏.‏

‏{‏ورَفَعْنا لك ذِكْرَكَ‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ورفعنا لك ذكرك بالنبوة، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ ورفعنا لك ذكرك في الآخرة كما رفعناه في الدنيا‏.‏

الثالث‏:‏ أن تذكر معي إذا ذكرت، روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «أتاني جبريل عليه السلام فقال‏:‏ إن الله تعالى يقول أتدري كيف رفعْت ذكرك‏؟‏ فقال‏:‏ الله أعلم، فقال‏:‏ إذا ذُكرتُ ذُكِرْتَ» قاله قتادة‏:‏ رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب يخطب ولا يتشهد، ولا صاحب صلاة إلا ينادي‏:‏

أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله‏.‏

‏{‏فإنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْراً‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ إن مع اجتهاد الدنيا خير الآخرة‏.‏

الثاني‏:‏ إن مع الشدة رخاء، ومع الصبر سعة، ومع الشقاوة سعادة، ومع الحزونة سهولة‏.‏

ويحتمل ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أن مع العسر يسراً عند الله ليفعل منهما ما شاء‏.‏

الثاني‏:‏ إن مع العسر في الدنيا يسراً في الآخرة‏.‏

الثالث‏:‏ إن مع العسر لمن بُلي يسراً لمن صبر واحتسب بما يوفق له من القناعة أو بما يعطى من السعة‏.‏

قال ابن مسعود‏:‏ والذي نفسي بيده لو كان العسر في حَجَرٍ لطلبه اليسر حتى يدخل عليه «ولن يغلب عسْرٌ يُسْرَين»‏.‏

وإنما كان العسر في الموضعين واحداً، واليسر اثنين، لدخول الألف واللام على العسر وحذفها من اليسر‏.‏

وفي تكرار «مع العسر يسرا» وجهان‏:‏ أحدهما‏:‏ ما ذكرنا من إفراد العسر وتثنية اليسر، ليكون أقوى للأمل وأبعث على الصبر، قاله ثعلب‏.‏

الثاني‏:‏ للإطناب والمبالغة، كما قالوا في تكرار الجواب فيقال بلى بلى، لا لا، قاله الفراء وقال الشاعر‏:‏

هممتُ بِنْفسيَ بَعْضَ الهُموم *** فأَوْلَى لنفْسِيَ أولى لها‏.‏

‏{‏فإذا فَرَغتَ فانَصَبْ‏}‏ فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ فإذا فرغت من الفرائض فانصب من قيام الليل، قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ فإذا فرغت من صلاتك فانصب في دعائك، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ فإذا فرغت من جهادك عدوك فانصب لعبادة ربك، قاله الحسن وقتادة‏.‏

الرابع‏:‏ فإذا فرغت من أمر دنياك فانصب في عمل آخرتك، قاله مجاهد‏.‏

ويحتمل تأويلاً خامساً‏:‏ فإذا فرغت من إبلاغ الرسالة فانصب لجهاد عدّوك‏.‏

‏{‏وإلى ربِّكَ فارْغَبْ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ فارغب إليه في دعائك قاله ابن مسعود‏.‏

الثاني‏:‏ في معونتك‏.‏

الثالث‏:‏ في إخلاص نيتك، قاله مجاهد‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ فارغب إليه في نصرك على أعدائك‏.‏

سورة التين

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ‏(‏1‏)‏ وَطُورِ سِينِينَ ‏(‏2‏)‏ وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ‏(‏3‏)‏ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ‏(‏4‏)‏ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ‏(‏5‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ‏(‏6‏)‏ فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ ‏(‏7‏)‏ أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ ‏(‏8‏)‏‏}‏

مكية في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر، وقال ابن عباس وقتادة‏:‏ هي مدنية‏.‏

قوله تعالى ‏{‏والتّينِ والزَّيْتُونِ‏}‏ هما قَسَمان، وفيهما ثمانية تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أنهما التين والزيتون المأكولان، قاله الحسن وعكرمة ومجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن التين دمشق، والزيتون بيت المقدس، قاله كعب الأحبار وابن زيد‏.‏

الرابع‏:‏ أن التين مسجد دمشق، والزيتون مسجد بيت المقدس، قاله الحارث وابن زيد‏.‏

الخامس‏:‏ الجبل الذي عليه التين، والجبل الذي عليه الزيتون، قاله ابن قتيبة، وهما جبلان بالشام يقال لأحدهما طور زيتا، وللآخر طور تيناً، وهوتأويل الربيع‏.‏

وحكى ابن الأنباري أنهما جبلان بين حلوان وهمدان، وهو بعيد‏.‏

السادس‏:‏ أن التين مسجد أصحاب الكهف، والزيتون مسجد ايليا، قاله محمد بن كعب‏.‏

السابع‏:‏ أن التين مسجد نوح عليه السلام الذي بني على الجودي، والزيتون مسجد بيت المقدس، قاله ابن عباس‏.‏

الثامن‏:‏ أنه أراد بهما نعم الله تعالى على عباده التي منها التين والزيتون، لأن التين طعام، والزيتون إدام‏.‏

‏{‏وطورِ سِينينَ‏}‏ وهو قَسَم ثالث وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه جبل بالشام، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام، قاله كعب الأحبار‏.‏

وفي قوله «سينين» أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه الحسن بلغة الحبشة، ونطقت به العرب، قاله الحسن وعكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ أنه المبارك، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه اسم البحر، حكاه ابن شجرة‏.‏

الرابع‏:‏ أنه اسم للشجر الذي حوله، قاله عطية‏.‏

‏{‏وهذا البلدِ الأَمينِ‏}‏ يعني بالبلد مكة وحرمها، وفي الأمين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الآمن أهله من سبي أو قتل، لأن العرب كانت تكف عنه في الجاهلية أن تسبي فيه أحداً أو تسفك فيه دماً‏.‏

الثاني‏:‏ يعني المأمون على ما أودعه الله تعالى فيه من معالم الدين، وهذا قَسَم رابع‏.‏

‏{‏لقد خَلَقْنا الإنسانَ‏}‏ وفي المراد بالإنسان ها هنا قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه أراد عموم الناس، وذكر الإنسان على وجه التكثير لأنه وصفه بما يعم لجميع الناس‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد إنساناً بعينه عناه بهذه الصفة، وإن كان صفة الناس‏.‏

واختلف فيمن أراده الله تعالى، على خمسة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه عنى كلدة بن أسيد، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أبا جهل، قاله مقاتل‏.‏

الخامس‏:‏ أنه عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وفي قوله ‏{‏في أَحْسَنِ تقْويمٍ‏}‏ أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ في أعدل خلق، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ في أحسن صورة، قاله أبو العالية‏.‏

الثالث‏:‏ في شباب وقوة، قاله عكرمة‏.‏

الرابع‏:‏ منتصب القامة، لأن سائر الحيوان مُنْكَبٌّ غير الإنسان، فإنه منتصب، وهو مروي عن ابن عباس‏.‏

ويحتمل خامساً‏:‏ أي في أكمل عقل، لأن تقويم الإنسان بعقله، وعلى هذا وقع القَسَم‏.‏

‏{‏ثم ردَدْناهُ أسْفَلَ سافِلينَ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ إلى الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، قاله الضحاك والكلبي، ويكون أسفل بمعنى بعد التمام‏.‏

الثاني‏:‏ بعد الكفر، قاله مجاهد وأبو العالية، ويكون أسفل السافلين محمولاً على الدرك الأسفل من النار‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ إلى ضعف التمييز بعد قوّته‏.‏

‏{‏فلهم أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنونٍ‏}‏ فيه ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ غير منقوص، قاله ابن عباس، وقال الشاعر‏:‏

يا عين جودي بدمع غير ممنون ***‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

الثاني‏:‏ غير محسوب، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ غير مكدر بالمنّ والأذى، قاله الحسن‏.‏

الرابع‏:‏ غير مقطوع، قاله ابن عيسى‏.‏

الخامس‏:‏ أجر بغير عمل، قاله الضحاك‏.‏

وحكي أن من بلغ الهرم كتب له أجر ما عجز عنه من العمل الصالح‏.‏

السادس‏:‏ أن لا يضر كل أحد منهم ما عمله في كبره، قاله ابن مسعود‏.‏

‏{‏فما يُكذِّبُكَ بَعْدُ بالدِّينِ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ حكم الله تعالى، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ الجزاء، ومنه قول الشاعر‏:‏

دِنّا تميماً كما كانت أوائلُنا *** دانَتْ أوائلَهم في سالفِ الزَّمَنِ

‏{‏أليْسَ اللهُ بأحْكَمِ الحاكِمينَ‏}‏ وهذا تقرير لمن اعترف من الكفار بصانع قديم، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ بأحكم الحاكمين صنعاً وتدبيراً، قاله ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ أحكم الحاكمين قضاء بالحق وعدلاً بين الخلق وفيه مضمر محذوف، وتقديره‏:‏ فلِمَ ينكرون مع هذه الحال البعث والجزاء‏.‏

وكان عليّ رضي الله عنه إذا قرأ ‏{‏أليس الله بأحكم الحاكمين‏}‏ قال‏:‏ بلى وأنا على ذلك من الشاهدين، ونختار ذلك‏.‏

سورة العلق

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ‏(‏1‏)‏ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ‏(‏2‏)‏ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ‏(‏3‏)‏ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله‏:‏ ‏{‏اقرأ باسْمِ ربِّك الذي خَلَقَ‏}‏ روي عن عبيد بن عمير قال‏:‏ جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم أول ما أتاه بنمط فغطّه فقال‏:‏ اقرأ، فقال‏:‏ والله ما أنا بقارئ، فغطّه ثم قال‏:‏ اقرأ، فقال‏:‏ والله ما أنا بقارئ فغطّه غطاً شديداً ثم قال‏:‏ ‏{‏اقرأ باسم ربك الذي خَلَقَ‏}‏ أي استفتح قراءتك باسم ربك الذي خلق وإنما قال الذي خلق لأن قريشاً كانت تعبد آلهة ليس فيهم خالق غيره تعالى، فميّز نفسه بذلك ليزول عنه الالتباس‏.‏

روت عائشة رضي الله عنها أنها أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم بعدها «نون والقلم» ثم بعدها «يا أيها المدثر» ثم بعدها «والضحى»‏.‏

‏{‏خَلَقَ الإنسان مِنْ عَلَقٍ‏}‏ يريد بالإنسان جنس الناس كلهم، خلقوا من علق بعد النطفة، والعلق جمع علقة، والعلقة قطعة من دم رطب سميت بذلك لأنها تعلق لرطوبتها بما تمر عليه، فإذا جفت لم تكن علقة، قال الشاعر‏:‏

تركْناه يخرُّ على يديْه *** يَمُجُّ عليهما عَلَقَ الوتين

ويحتمل مراده بذلك وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن يبين قدر نعمته على الإنسان بأن خلقه من علقة مهيئة حتى صار بشراً سوياً وعاقلاً متميزاً‏.‏

الثاني‏:‏ أنه كما نقل الإنسان من حال إلى حال حتى استكمل، كذلك نقلك من الجهالة إلى النبوة حتى تستكمل محلها‏.‏

‏{‏اقْرَأ وربُّكَ الأكْرَمُ‏}‏ أي الكريم‏.‏

ويحتمل ثانياً‏:‏ اقرأ بأن ربك هو الأكرم، لأنه لما ذكر ما تقدم من نعمه دل بها على نعمة كرمه‏.‏ قال إبراهيم بن عيسى اليشكري‏:‏ من كرمه أن يرزق عبده وهو يعبد غيره‏.‏

‏{‏الذي علّمَ بالقَلَمِ‏}‏ أي عَلّم الكاتب أن يكتب بالقلم، وسمي قلماً لأنى يقلم أي يقطع، ومنه تقليم الظفر‏.‏

وروى مجاهد عن ابن عمر قال‏:‏ خلق الله تعالى أربعة أشياء بيده ثم قال لسائر الخلق‏:‏ كن، فكان، القلم والعرش وجنة عدن وآدم‏.‏

وفيمن علمه بالقلم ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه أراد آدم عليه السلام، لأنه أول من كتب، قاله كعب الأحبار‏.‏

الثاني‏:‏ إدريس وهو أول من كتب، قاله الضحاك‏.‏

الثالث‏:‏ أنه أراد كل من كتب بالقلم لأنه ما علم إلا بتعليم الله له، وجمع بذلك بين نعمته تعالى عليه في خلقه وبين نعمته تعالى عليه في تعليمه استكمالاً للنعمة عليه‏.‏

‏{‏علَّمَ الإنسانَ مالم يَعْلَمْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ الخط بالقلم، قاله قتادة وابن زيد‏.‏

الثاني‏:‏ علمه كل صنعه علمها فتعلم، قاله ابن شجرة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ علمه من حاله في ابتداء خلقه ما يستدل به على خلقه وأن ينقله من بعد على إرادته‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6- 19‏]‏

‏{‏كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى ‏(‏6‏)‏ أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى ‏(‏7‏)‏ إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ‏(‏8‏)‏ أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى ‏(‏9‏)‏ عَبْدًا إِذَا صَلَّى ‏(‏10‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى ‏(‏11‏)‏ أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى ‏(‏12‏)‏ أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى ‏(‏13‏)‏ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ‏(‏14‏)‏ كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ ‏(‏15‏)‏ نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ ‏(‏16‏)‏ فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ ‏(‏17‏)‏ سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ‏(‏18‏)‏ كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏كلا إنّ الإنسانَ لَيطْغَى‏}‏ في «كلا» ها هنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه ردّ وتكذيب، قاله الفراء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بمعنى إلا، وكذلك ‏{‏كلا سوف يعلمون‏}‏، قاله أبو حاتم السجستاني‏.‏

وفي قوله «ليطغى» أربعة أوجه‏:‏

الثاني‏:‏ ليبطر، قاله الكلبي‏.‏

الثالث‏:‏ ليرتفع من منزلة إلى منزلة، قاله السدي‏.‏

الرابع‏:‏ ليتجاوزه قدره، ومنه قوله تعالى ‏{‏إنّا لما طَغَى الماءُ‏}‏ قاله ابن شجرة‏.‏

‏{‏أَن رآه اسْتَغْنَى‏}‏ أي عن ربه، قاله ابن عباس‏.‏

ويحتمل ثانياً‏:‏ استغنى بماله وثروته، وقال الكلبي‏:‏ نزلت في أبي جهل‏.‏

‏{‏إنّ إلى ربِّك الرُّجْعَى‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المنتهى، قاله الضحاك‏.‏

الثاني‏:‏ المرجع في القيامة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ يرجعه الله إلى النقصان بعد الكمال، وإلى الموت بعد الحياة‏.‏

‏{‏أَرَأَيْتَ الذي يَنْهَى عَبْداً إذا صَلَّى‏}‏ نزلت في أبي جهل، روى أبو هريرة أن أبا جهل قال‏:‏ واللات والعزّى لئن رأيت محمداً يصلّي بين أظهركم لأطأن رقبته ولأعفرن وجهه في التراب، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ رقبته، فما فجأه منه إلا وهو ينكص، أي يرجع على عقبيه، فقيل له‏:‏ ما لك‏؟‏ فقال‏:‏ إن بيني وبينه خندقاً من نار وهواء وأجنحة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضواً عضواً»‏.‏

وروى الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ لكل أمة فرعون، وفرعون هذه الأمة أبو جهل»‏.‏

وكانت الصلاة التي قصد فيها أبو جهل رسول الله صلاة الظهر‏.‏ وحكى جعفر بن محمد أن أول صلاة جماعة جمعت في الإسلام، يوشك أن تكون التي أنكرها أبو جهل، صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عليّ رضي الله عنه فمرّ به أبو طالب ومعه ابنه جعفر فقال‏:‏ صل جناح ابن عمك، وانصرف مسروراً يقول‏:‏

إنَّ عليّاً وجعفرا ثقتي *** عند مُلِمِّ الزمان والكُرَبِ

والله لا أخذل النبيّ ولا *** يخذله من كان ذا حَسَبِ

لا تخذلا وانصرا ابن عمكما *** أخي لأمي من بنيهم وأبي

فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك‏.‏

‏{‏أرأيْتَ إن كان على الهُدَى أو أمَرَ بالتّقْوَى‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني أبا جهل، ويكون فيه إضمار، وتقديره‏:‏ ألم يكن خيراً له‏.‏ الثاني‏:‏ هو النبي صلى الله عليه وسلم كان على الهدى في نفسه، وأمر بالتقوى في طاعة ربه‏.‏ وفي قوله «أرأيْتَ» احتمال الوجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم‏.‏

الثاني‏:‏ خطاب عام له ولأمته، والمراد به على الوجهين هدايته، ويكون في الكلام محذوف، وتقديره‏:‏ هكذا كان يفعل به‏.‏

‏{‏أرأَيْتَ إن كَذَّبَ وَتَوَلّى‏}‏ يعني أبا جهل، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كذب بالله وتولى عن طاعته‏.‏

الثاني‏:‏ كذب بالقرآن وتولى عن الإيمان‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ كذب بالرسول وتولى عن القبول‏.‏

‏{‏ألم يَعْلَمْ بأنَّ الله يَرَى‏}‏ يعني أبا جهل، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ ألم تعلم يا محمد أن الله يرى أبا جهل‏؟‏

الثاني‏:‏ ألم تعلم يا أبا جهل أن الله يراك‏؟‏

وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يرى عمله ويسمع قوله‏.‏

الثاني‏:‏ يراك في صلاتك حين نهاك أبو جهل عنها‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ يرى ما همّ به أبو جهل فلا يمكنه من رسوله‏.‏

‏{‏كلا لئِن لم يَنْتَهِ لنسفعاً بالنّاصِيةِ‏}‏ يعني أبا جهل، وفيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني لنأخذن بناصيته، قاله ابن عباس، وهو عند العرب أبلغ في الاستذلال والهوان، ومنه قول الخنساء‏:‏

جززنا نواصي فرسانهم *** وكانوا يظنّون أنْ لن تُجَزَّا

الثاني‏:‏ معناه تسويد الوجوه وتشويه الخلقة بالسفعة السوداء، مأخوذ من قولهم قد سفعته النار أو الشمس إذا غيرت وجهه إلى حالة تشويه، وقال الشاعر‏:‏

أثافيَّ سُفْعاً مُعَرَّس مِرَجلٍ *** ونُؤْياً كجِذم الحوضِ لم يَتَثَلّمِ

والناصية شعر مقدم الرأس، وقد يعبّر بها عن جملة الإنسان، كما يقال هذه ناصية مباركة إشارة إلى جميع الإنسان‏.‏

ثم قال‏:‏ ‏{‏ناصيةٍ كاذبةٍ خاطئةٍ‏}‏ يعني ناصية أبي جهل كاذبة في قولها، خاطئة في فعلها‏.‏

‏{‏فلْيَدْعُ نادِيَةُ‏}‏ يعني أبا جهل، والنادي مجلس أهل الندى والجود ومعنى «فليدع نادية» أي فليدع أهل ناديه من عشيرة أو نصير‏.‏

‏{‏سَنَدْعُ الزّبانِيةَ‏}‏ والزبانية هم الملائكة من خزنة جهنم، وهم أعظم الملائكة خلقاً وأشدهم بطشاً، والعرب تطلق هذا الإسم على من اشتد بطشه، قال الشاعر‏:‏

مَطاعيمُ في القُصْوى مَطاعينُ في الوَغى *** زبانيةٌ غُلْبٌ عِظَامٌ حُلومها

‏{‏كلا لا تُطِعْهُ‏}‏ قال أبو هريرة‏:‏ كلا لا تطع أبا جهل في أمره‏.‏

ويحتمل نهيه عن طاعته وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لا تقبل قوله إن دارك ولا رأيه إن قاربك‏.‏

الثاني‏:‏ لا تجبه عن قوله، ولا تقابله على فعله، ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ «اللهم لا تطع فينا مسافراً» أي لا تجب دعاءه لأن المسافر يدعو بانقطاع المطر فلو أجيبت دعوته لهلك الناس‏.‏

‏{‏واسْجُدْ واقْتَرِبْ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ اسجد أنت يا محمد مصلياً، واقترب أنت يا أبا جهل من النار، قاله زيد بن أسلم‏.‏

الثاني‏:‏ اسجد أنت يا محمد في صلاتك لتقرب من ربك، فإن أقرب ما يكون العبد إلى الله تعالى إذا سجد له‏.‏

وروى جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال‏:‏ أنزل في أبي جهل أربع وثمانون آية، وأنزل في الوليد بن المغيرة مائة وأربع آيات، وأنزل في النضر بن الحارث اثنتان وثلاثون آية‏.‏

وإذا كانت هذه أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الأكثرين فقد روي في ترتيب السور بمكة والمدينة أحاديث، أوفاها ما رواه آدم ابن أبي أناس عن أبي شيبة شعيب بن زريق عن عطاء الخراساني قال‏:‏ بلغنا أن هذا ما نزل من القرآن بمكة والمدينة الأول فالأول، فكان أول ما نزل فيما بلغنا‏:‏ «اقرأ باسم ربك» ثم «ن والقلم، المزمل، المدثر، تبّت، إذا الشمس كورت، سبّح اسم ربك، الليل، الفجر، الضحى، ألم نشرح، العصر، العاديات، الكوثر، ألهاكم، أرأيت، الكافرون، الفيل، الفلق، الإخلاص، النجم، عبس، القدر، والشمس، البروج، التين، لإيلاف، القارعة، القيامة، الهُمزة، المرسلات، ق، البلد، الطارق، القمر، ص، الأعراف، قل أوحى، يس، الفرقان، الملائكة، مريم، طه، الواقعة، الشعراء، النمل، القصص، بنو إسرائيل، يونس، هود، يوسف، الحجر، الأنعام، الصافات، لقمان، سبأ، الزمر، المؤمن، حم السجدة، عسق، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف، الذاريات، الغاشية، الكهف، النحل، نوح، إبراهيم، الأنبياء، قد أفلح، السجدة، الطور، الملك، الحاقة، سأل سائل، النبأ، النازعات، الانفطار، الانشقاق، الروم، العنكبوت، المطففين‏.‏

فهذه خمس وثمانون سورة نزلت بمكة‏.‏

وكان فيما نزل بالمدينة البقرة، ثم الأنفال، آل عمران، الأحزاب، الممتحنة، النساء، الزلزلة، الحديد، سورة محمد، الرعد، الرحمن، هل أتى، الطلاق، لم يكن، الحشر، النصر، النور، الحج، المنافقون، المجادلة، الحجرات، التحريم، الجمعة، الصف، الفتح، المائدة، براءة‏.‏

فهذه سبع وعشرون سورة نزلت بالمدينة‏.‏

ولم تكن الفاتحة والله أعلم ضمن ما ذكره، وقد اختلف الناس في نزول السور اختلافاً كثيراً، لكن وجدت هذا الحديث أوفى وأشفى فذكرته‏.‏

سورة القدر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 5‏]‏

‏{‏إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ‏(‏1‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ‏(‏2‏)‏ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ‏(‏3‏)‏ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ‏(‏4‏)‏ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏إنا أنزلناه في ليلة القدر‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني جبريل، أنزله الله في ليلة القدر بما نزل به من الوحي‏.‏

الثاني‏:‏ يعني القرآن؛ وفيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ ما روى ابن عباس قال‏:‏ نزل القرآن في رمضان وفي ليلة القدر في ليلة مباركة جملة واحدة من عند الله تعالى في اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفرة على جبريل في عشرين ليلة، ونجمه جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم في عشرين سنة، وكان ينزل على مواقع النجوم أرسالاً في الشهور والأيام‏.‏

القول الثاني‏:‏ أن الله تعالى ابتدأ بإنزاله في ليلة القدر، قاله الشعبي‏.‏

واختلف في ليلة القدر مع اتفاقهم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها في وتر العشر أوجد، إلا ابن عمر فإنه زعم أنها في الشهر كله‏.‏

فذهب الشافعي رحمه الله إلى أنها في إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري، وذهب أبيّ بن كعب وابن عباس إلى أنها في ليلة سبع وعشرين‏.‏

واختلف في الدليل، فاستدل أبيّ بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «من علامتها أن تصبح الشمس لا شعاع لها»، قال‏:‏ وقد رأيت ذلك في صبيحة سبع وعشرين، واستدل ابن عباس بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ سورة القدر ثلاثون كلمة فهي في قوله «سلام» و«هي» الكلمة السابعة والعشرون، فدل أنها فيها‏.‏

وقال آخرون‏:‏ هي في ليلة أربع وعشرين للخبر المروي في تنزيل الصحف، وقال آخرون‏:‏ إن الله تعالى ينقلها في كل عام من ليلة إلى أخرى ليكون الناس في جميع العشر مجتهدين، ولرؤيتها متوقعين‏.‏

وفي تسميتها ليلة القدر أربعة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ لأن الله تعالى قدر فيها إنزال القرآن‏.‏

الثاني‏:‏ لأن الله تعالى يقدر فيها أمور السنة، أي يقضيها، وهو معنى قول مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ لعظم قدرها وجلالة خطرها، من قولهم رجل له قدر، ذكره ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ لأن للطاعات فيها قدراً عظيماً وثواباً جزيلاً‏.‏

‏{‏وما أدْراكَ ما لَيْلَةُ القَدْرِ‏}‏ تنبيهاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على فضلها، وحثّاً على العمل فياه، قال الشعبي‏:‏ وليلتها كيومها، ويومها كليلتها‏.‏

قال الفراء‏:‏ كل ما في القرآن من قوله تعالى‏:‏ «وما أدراك» فقد أدراه، وما كان من قوله «وما يدريك» فلم يدره‏.‏

قال الضحاك‏:‏ لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدر في غيرها البلايا والنقم، وقال عكرمة‏:‏ كان ابن عباس يسمي ليلة القدر ليلة التعظيم، وليلة النصف من شعبان ليلة البراءة، وليلتي العيدين ليلة الجائزة‏.‏

‏{‏ليلةُ القدْرِ خيرٌ من أَلْفِ شَهْرٍ‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ ليلة القدر خير من عمر ألف شهر، قاله الربيع‏.‏

الثاني‏:‏ أن العمل في ليلة القدر خير من العمل في غيرها ألف شهر، قاله مجاهد‏.‏

الثالث‏:‏ أن ليلة القدر خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر، قاله قتادة‏.‏

الرابع‏:‏ أنه كان رجل في بني إسرائيل يقوم الليل حتى يصبح ثم يجاهد العدوّ حتى يمسي، ففعل ذلك ألف شهر، فأخبر الله تعالى أن قيام ليلة القدر خير من عمل ذلك الرجل ألف شهر، رواه ابن أبي نجيح ومجاهد‏.‏

الخامس‏:‏ أن ملك سليمان كان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين كان خمسمائة شهر، فصار ملكهما ألف شهر، فجعل العمل في ليلة القدر خيراً من زمان ملكهما‏.‏

‏{‏تَنَزَّلُ الملائكةُ والرُّوحُ فيها‏}‏ قال أبو هريرة‏:‏ الملائكة في ليلة القدر في الأرض أكثر من عدد الحصى‏.‏

وفي «الروح» ها هنا أربعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ جبريل عليه السلام، قاله سعيد بن جبير‏.‏

الثاني‏:‏ حفظة الملائكة، قاله ابن أبي نجيح‏.‏

الثالث‏:‏ أنهم أشرف الملائكة وأقربهم من الله، قاله مقاتل‏.‏

الرابع‏:‏ أنهم جند من الله من غير الملائكة، رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً‏.‏

ويحتمل إن لم يثبت فيه نص قولاً خامساً‏:‏ أن الروح والرحمة تنزل بها الملائكة على أهلها، دليله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ينزّل الملائكة بالرُّوح من أمْره على من يشَاءُ من عباده‏}‏ أي بالرحمة‏.‏

‏{‏بإذْن ربِّهم‏}‏ يعني بأمر ربهم‏.‏

‏{‏مِن كل أمْرٍ‏}‏ يعني يُقضى في تلك الليلة من رزق وأجل إلى مثلها من العام القابل‏.‏

وقرأ ابن عباس‏:‏ من كل امرئ، فتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة فيسلمون على كل امرئ مسلم‏.‏

‏{‏سلامٌ هي حتى مطلع الفَجْر‏}‏ فيه ثلاثة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ أن ليلة القدر هي ليلة سالمة من كل شر، لا يحدث فيها حدث ولا يرسل فيها شيطان، قاله مجاهد‏.‏

الثاني‏:‏ أن ليلة القدر هي سلام وخير وبركة، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ أن الملائكة تسلم على المؤمنين في ليلة القدر إلى مطلع الفجر، قاله الكلبي‏.‏

سورة البينة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏1‏)‏ رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً ‏(‏2‏)‏ فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ ‏(‏3‏)‏ وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ ‏(‏4‏)‏ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ ‏(‏7‏)‏ جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏لم يَكُنِ الّذِينَ كَفَروا مِنْ أهْلِ الكِتابِ والمُشْرِكينَ مُنفَكِّينَ‏}‏ معناه لم يكن الذين كفروا من اليهود والنصارى الذين هم أهل الكتاب، ولم يكن المشركون الذين هم عبدة الأوثان من العرب، وغيرهم الذين ليس لهم كتاب‏.‏‏.‏ «منفكين» فيه أربعة تأويلات‏:‏

أحدها‏:‏ لم يكونوا منتهين عن الشرك ‏{‏حتى تأتيهم البَيِّنَةُ‏}‏ حتى يتبين لهم الحق‏.‏ وهذا قول ثان‏:‏ لم يزالوا مقيمين على الشرك والريبة حتى تأتيهم البينة، يعنى الرسل، قاله الربيع‏.‏

الثالث‏:‏ لم يفترقوا ولم يختلفوا أن الله سيبعث إليهم رسولاً حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم وتفرقوا، فمنهم من آمن بربه، ومنهم من كفر، قاله ابن عيسى‏.‏

الرابع‏:‏ لم يكونوا ليتركوا منفكين من حجج الله تعالى، حتى تأتيهم البينة التي تقوم بها عليهم الحجة، قال امرؤ القيس‏:‏

إذا قُلْتُ أَنْفَكَّ مِن حُبّها *** أبى عالقُ الحُبِّ إلا لُزوما

وفي «البيّنة» ها هنا ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ القرآن، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ الرسول الذي بانت فيه دلائل النبوة‏.‏

الثالث‏:‏ بيان الحق وظهور الحجج‏.‏

وفي قراءة أبيّ بن كعب‏:‏ ما كان الذي كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين، وفي قراءة ابن مسعود‏:‏ لم يكن المشركون وأهل الكتاب منفكين‏.‏

‏{‏رسولٌ مِن الله‏}‏ يعني محمداً‏.‏

‏{‏يَتْلُواْ صُحُفاً مُطَهّرَةً‏}‏ يعني القرآن‏.‏

ويحتمل ثانياً‏:‏ يتعقب بنبوته نزول الصحف المطهرة على الأنبياء قبله‏.‏ وفي ‏{‏مطهرة‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ من الشرك، قاله عكرمة‏.‏

الثاني‏:‏ مطهرة الحكم بحسن الذكر والثناء، قاله قتادة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ لنزولها من عند الله‏.‏

‏{‏فيها كُتُبٌ قَيِّمةٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني كتب الله المستقيمة التي جاء القرآن بذكرها، وثبت فيه صدقها، حكاه ابن عيسى‏.‏

الثاني‏:‏ يعني فروض الله العادلة، قاله السدي‏.‏

‏{‏وما تَفَرَّقَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ‏}‏ يعني اليهود والنصارى‏.‏

‏{‏إلاّ مِن بَعْدِ ما جاءتْهم البْيِّنَةُ‏}‏ فيه قولان‏:‏

احدهما‏:‏ القرآن، قاله أبو العالية‏.‏

الثاني‏:‏ محمد صلى الله عليه وسلم، قاله ابن شجرة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ البينة ما في كتبهم من صحة نبوته‏.‏

‏{‏وما أُمِروا إلاّ ليَعْبُدوا الله مُخْلِصينَ له الدِّينَ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ مُقِرِّين له بالعبادة‏.‏

الثاني‏:‏ ناوين بقلوبهم وجه الله تعالى في عبادتهم‏.‏

الثالث‏:‏ إذا قال لا إله إلا الله أن يقول على أثرها «الحمد لله»، قاله ابن جرير‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ إلا ليخلصوا دينهم في الإقرار بنبوته‏.‏

‏{‏حُنفاءَ‏}‏ فيه ستة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ متبعين‏.‏

الثاني‏:‏ مستقيمين، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ مخلصين، قاله خصيف‏.‏

الرابع‏:‏ مسلمين، قاله الضحاك، وقال الشاعر‏:‏

أخليفة الرحمنِ إنا مَعْشرٌ *** حُنفاءُ نسجُدُ بُكرةً وأصيلاً

الخامس‏:‏ يعني حجّاجاً، قاله ابن عباس؛ وقال عطية العوفي‏:‏ إذا اجتمع الحنيف والمسلم كان معنى الحنيف الحاج وإذا انفرد الحنيف كان معناه المسلم، وقال سعيد بن جبير‏:‏ لا تسمي العرب الحنيف إلا لمن حج واختتن‏.‏

السادس‏:‏ أنهم المؤمنون بالرسل كلهم، قاله أبو قلابة‏.‏

‏{‏ويُقيموا الصّلاةَ ويُؤْتُوا الزّكاةَ وذلكَ دينُ القَيِّمَةِ‏}‏ وفيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه وذلك دين الأمة المستقيمة‏.‏

الثاني‏:‏ وذلك دين القضاء القيم، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ وذلك الحساب المبين، قاله مقاتل‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ وذلك دين من قام لله بحقه‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أولئك هُمْ شَرُّ البرية * إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية * جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ‏}‏

سورة الزلزلة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ‏(‏1‏)‏ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ‏(‏3‏)‏ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ‏(‏4‏)‏ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا ‏(‏5‏)‏ يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ ‏(‏6‏)‏ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ‏(‏7‏)‏ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى ‏{‏إذا زُلزِلت الأرض زِلزالها‏}‏ أي حركت الأرض حركتها، والزلزلة شدة الحركة، فيكون من زل يزل‏.‏

وفي قوله ‏{‏زِلزالها‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لأنها غاية زلازلها المتوقعة‏.‏

الثاني‏:‏ لأنها عامة في جميع الأرض، بخلاف الزلازل المعهودة في بعض الأرض‏.‏

وهذا الخطاب لمن لا يؤمن بالبعث وعيد وتهديد، ولمن يؤمن به إنذار وتحذير، واختلف في هذه الزلزلة على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنها في الدنيا من أشراط الساعة، وهو قول الأكثرين‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الزلزلة يوم القيامة، قاله خارجة بن زيد وطائفة‏.‏

‏{‏وأَخْرَجَتِ الأرضُ أَثْقَالَها‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏

الثاني‏:‏ ما عليها من جميع الأثقال، وهذا قول عكرمة‏.‏

ويحتمل قول الفريقين‏.‏

ويحتمل رابعاً‏:‏ أخرجت أسرارها التي استودعتها، قال أبو عبيدة‏:‏ إذا كان الثقل في بطن الأرض فهو ثقل لها، وإذا كان فوقها فهو ثقل عليها‏.‏

‏{‏وقالَ الإنسانُ ما لَها‏}‏ يحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ ما لها زلزلت زلزالها‏.‏

الثاني‏:‏ ما لها أخرجت أثقالها‏.‏

وفي المراد بهذا «الإنسان» قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المراد جميع الناس من مؤمن وكافر، وهذا قول من جعله في الدنيا من أشراط الساعة لأنهم لا يعلمون جميعأً أنها من أشراط الساعة في ابتداء أمرها حتى يتحققوا عمومها، فلذلك سأل بعضهم بعضاً عنها‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم الكفار خاصة، وهذا قول من جعلها زلزلة القيامة، لأن المؤمن يعترف بها فهو لا يسأل عنها، والكافر جاحد لها فلذلك يسأل عنها‏.‏

‏{‏يومئذٍ تُحَدِّثُ أخْبارَها‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ تحدث أخبارها بأعمال العباد على ظهرها، قاله أبو هريرة ورواه مرفوعاً، وهذا قول من زعم أنها زلزلة القيامة‏.‏

الثالث‏:‏ تحدث بقيام الساعة إذا قال الإنسان ما لها، قال ابن مسعود‏:‏ فتخبر بأن أمر الدنيا قد انقضى، وأن أمر الآخرة قد أتى، فيكون ذلك منها جواباً عند سؤالهم، وعيداً للكافر وإنذاراً للمؤمن‏.‏

وفي حديثها بأخبارها ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن الله تعالى يقلبها حيواناً ناطقاً فتتكلم بذلك‏.‏

الثاني‏:‏ أن الله تعالى يُحدث الكلام فيها‏.‏

الثالث‏:‏ يكون الكلام منها بياناً يقوم مقام الكلام‏.‏

‏{‏بأنَّ ربّك أوْحَى لَهَا‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ معناه أوحى إليها بأن ألهمها فأطاعت، كما قال العجاج‏:‏

أَوْحى لها القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ *** وشَدَّها بالراسياتِ الثُّبّتِ

الثاني‏:‏ يعني قال لها، قاله السدي‏.‏

الثالث‏:‏ أمرها، قاله مجاهد‏.‏

وفيما أوحى لها وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أوحى لها بأن تحدث أخبارها‏.‏

الثاني‏:‏ بأن تخرج أثقالها‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أوحى لها بأن تزلزل زلزالها‏.‏

‏{‏يومئذٍ يَصْدُرُ الناسُ أَشْتاتاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه يوم القيامة يصدرون من بين يدي الله تعالى فرقاً فرقاً مختلفين في قدرهم وأعمالهم، فبعضهم إلى الجنة وهم أصحاب الحسنات، وبعضهم إلى النار وهم أصحاب السيئات، قاله يحيى بن سلام‏.‏

الثاني‏:‏ أنهم في الدنيا عند غلبة الأهواء يصدرون فرقاً، فبعضهم مؤمن، وبعضهم كافر، وبعضهم محسن، وبعضهم مسيء، وبعضهم محق، وبعضهم مبطل‏.‏

‏{‏ليُرَوْا أَعْمالَهم‏}‏ يعني ثواب أعمالهم يوم القيامة‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنهم عند النشور يصدرون أشتاتاً من القبور على اختلافهم في الأمم والمعتقد بحسب ما كانوا عليه في الدنيا من اتفاق أو اختلاف ليروا أعمالهم في موقف العرض من خير أو شر فيجازون عليها بثواب أو عقاب، والشتات‏:‏ التفرق والاختلاف، قال لبيد‏:‏

إنْ كُنْتِ تهْوينَ الفِراقَ ففارقي *** لا خيرَ في أمْر الشتات

‏{‏فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه‏}‏ في هذه الآية ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أن معنى يَرَه أي يعرفْهُ‏.‏

الثاني‏:‏ أنه يرى صحيفة عمله‏.‏

الثالث‏:‏ أن يرى خير عمله ويلقاه‏.‏

وفي ذلك قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ يلقى ذلك في الآخرة، مؤمناً كان أو كافراً، لأن الآخرة هي دار الجزاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنه إن كان مؤمناً رأى جزاء سيئاته في الدنيا، وجزاء حسناته في الآخرة حتى يصير إليها وليس عليه سيئة‏.‏

وإن كان كافراً رأى جزاء حسناته في الدنيا، وجزاء سيئاته في الآخرة حتى يصير إليها وليس له حسنة، قاله طاووس‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أنه جزاء ما يستحقه من ثواب وعقاب عند المعاينة في الدنيا ليوفاه في الآخرة‏.‏

ويحتمل المراد بهذه الآية وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ إعلامهم أنه لا يخفى عليه صغير ولا كبير‏.‏

الثاني‏:‏ إعلامهم أنه يجازي بكل قليل وكثير‏.‏

وحكى مقاتل بن سليمان أنها نزلت في ناس بالمدينة كانوا لا يتورعون من الذنب الصغير من نظرة أو غمزة أو غيبة أو لمسة، ويقولون إنما وعد الله على الكبائر، وفي ناس يستقلون الكسرة والجوزة والثمرة ولا يعطونها، ويقولون إنما نجزى على ما تعطيه ونحن نحبه، فنزل هذا فيهم‏.‏

وروي أن صعصعة بن ناجية جد الفرزدق أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستقرئه، فقرأ عليه هذه الآية، فقال صعصعة‏:‏ حسبي حسبي إن عملت مثقال ذرة خيراً رأيته، وإن عملت مثقال ذرة شراً رأيته‏.‏

وروى أبو أيوب الأنصاري‏:‏ قال كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه يتغذيان إذا نزلت هذه السورة، فقاما وأمسكا‏.‏

سورة العاديات

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا ‏(‏1‏)‏ فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا ‏(‏2‏)‏ فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا ‏(‏3‏)‏ فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا ‏(‏4‏)‏ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ ‏(‏6‏)‏ وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ‏(‏7‏)‏ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ ‏(‏8‏)‏ أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ ‏(‏9‏)‏ وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ ‏(‏10‏)‏ إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والعادياتِ ضَبْحاً‏}‏ في العاديات قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الخيل في الجهاد، قاله ابن عباس وأنس والحسن، ومنه قول الشاعر‏:‏

وطعنةٍ ذاتِ رشاشٍ واهيهْ *** طعنْتُها عند صدور العاديْه

يعني الخيل‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الإبل في الحج، قاله عليٌّ رضي الله عنه وابن مسعود ومنه قول صفية بنت عبد المطلب‏:‏

فلا والعاديات غَداة جَمْعٍ *** بأيديها إذا صدع الغبار

يعني الإبل، وسميت العاديات لاشتقاقها من العدو، وهو تباعد الرجل في سرعة المشي؛ وفي قوله «ضبحاً» وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الضبح حمحمة الخيل عند العدو، قاله من زعم أن العاديات الخيل‏.‏

الثاني‏:‏ أنه شدة النّفس عند سرعة السير، قاله من زعم أنها الإبل، وقيل إنه لا يضبح بالحمحمة في عدوه إلا الفرس والكلب، وأما الإبل فضبحها بالنفَس؛ وقال ابن عباس‏:‏ ضبحها‏:‏ قول سائقها أج أج؛ وهذا قَسَمٌ،

‏{‏فالموريات قَدْحاً‏}‏ فيه ستة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنها الخيل توري النار بحوافرها إذا جرت من شدة الوقع، قاله عطاء‏.‏

الثاني‏:‏ أنها نيران الحجيج بمزدلفة، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ أنها نيران المجاهدين إذا اشتعلت فكثرت نيرانها إرهاباً، قاله ابن عباس‏.‏

الرابع‏:‏ أنها تهيج الحرب بينهم وبين عدوهم، قاله قتادة‏.‏

الخامس‏:‏ أنه مكر الرجال، قاله مجاهد؛ يعني في الحروب‏.‏

السادس‏:‏ أنها الألسنة إذا ظهرت بها الحجج وأقيمت بها الدلائل وأوضح بها الحق وفضح بها الباطل، قاله عكرمة، وهو قَسَمٌ ثانٍ‏.‏

‏{‏فالمغيرات صُبْحاً‏}‏ فيها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها الخيل تغير على العدو صبحاً، أي علانية، تشبيهاً بظهور الصبح، قاله ابن عباس‏.‏

الثاني‏:‏ أنها الإبل حين تعدو صبحاً من مزدلفة إلى منى، قاله عليّ رضي الله عنه‏.‏

‏{‏فأثَرنَ به نَقْعاً‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ فأثرن به غباراً، والنقع الغبار، قاله قتادة، وقال عبد الله بن رواحة‏:‏

عدمت بُنَيّتي إن لم تَروْها *** تثير النقْعَ من كنفي كَداءِ

الثاني‏:‏ النقع ما بين مزدلفة إلى منى، قاله محمد بن كعب‏.‏

الثالث‏:‏ أنه بطن الوادي، فلعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع‏.‏

‏{‏فَوَسَطْنَ به جَمْعاً‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ جمع العدو حتى يلتقي الزخف، قاله ابن عباس والحسن‏.‏

الثاني‏:‏ أنها مزدلفة تسمى جمعاً لاجتماع الحاج لها وإثارة النقع في الدفع إلى منى، قاله مكحول‏.‏

‏{‏إنّ الإنسانَ لِربِّه لَكَنُودٌ‏}‏ فيه سبعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ لكفور قاله قتادة، والضحاك، وابن جبير، ومنه قول الأعشى‏:‏

أَحْدِثْ لها تحدث لوصْلك إنها *** كُنُدٌ لوصْلِ الزائرِ المُعْتادِ

وقيل‏:‏ إن الكنود هو الذي يكفر اليسير ولا يشكر الكثير‏.‏

الثاني‏:‏ أنه اللوام لربه، يذكر المصائب وينسى النعم، قاله الحسن، وهو قريب من المعنى الأول‏.‏

الثالث‏:‏ أن الكنود الجاحد للحق، وقيل إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها، وقال إبراهيم بن زهير الشاعر‏:‏

دع البخلاءَ إن شمخوا وصَدُّوا *** وذكْرى بُخْلِ غانيةٍ كَنوُدِ

الرابع‏:‏ أن الكنود العاصي بلسان كندة وحضرموت، وذكره يحيى بن سلام‏.‏

الخامس‏:‏ أنه البخيل بلسان مالك بن كنانة، وقال الكلبي‏:‏ الكنود بلسان كندة وحضرموت‏:‏ العاصي، وبلسان مضر وربيعة‏:‏ الكفور، وبلسان مالك بن كنانة‏:‏ البخيل‏.‏

السادس‏:‏ أنه ينفق نعم الله في معاصي الله‏.‏

السابع‏:‏ ما رواه القاسم عن أبي أمامه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «الكنود الذي يضرب عبده ويأكل وحده ويمنع رفده» وقال الضحاك‏:‏ نزلت في الوليد بن المغيرة، وعلى هذا وقع القسم بجميع ماتقدم من السورة‏.‏

‏{‏وإنَّه على ذلك لَشهيدٌ‏}‏ فيه قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الله تعالى على كفر الإنسان لشهيد، قاله ابن جريج‏.‏

الثاني‏:‏ أن الإنسان شاهد على نفسه، لأنه كنود، قاله ابن عباس‏.‏

‏{‏وإنه لِحُبِّ الخيرِ لشديدٌ‏}‏ يعني الإنسان، وفي الخير ها هنا وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ المال، قاله ابن عباس، ومجاهد وقتادة‏.‏

الثاني‏:‏ الدنيا، قاله ابن زيد‏.‏

ويحتمل ثالثاً‏:‏ أن الخير ها هنا الاختيار، ويكون معناه‏:‏ وإنه لحب اختياره لنفسه لشديد‏.‏

وفي قوله ‏{‏لشديد‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ لشديد الحب للخير، وشدة الحب قوته وتزايده‏.‏

الثاني‏:‏ لشحيح بالمال يمنع حق الله منه، قاله الحسن، من قولهم فلان شديد أي شحيح‏.‏

‏{‏أفَلاَ يَعْلَمُ إذا بُعْثِرَ ما في القُبورِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ من فيها من الأموات‏.‏

الثاني‏:‏ معناه مات‏.‏

الثالث‏:‏ بحث، قاله الضحاك، وهي في قراءة ابن مسعود‏:‏ بُحْثِرَ ما في القبور‏.‏

‏{‏وحُصِّلَ ما في الصُّدُورِ‏}‏ فيه ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ ميز ما فيها، قاله الكلبي‏.‏

الثاني‏:‏ استخرج ما فيها‏.‏

الثالث‏:‏ كشف ما فيها‏.‏

‏{‏إنَّ ربَّهم بهم يومئذٍ لَخبيرٌ‏}‏ أي عالم، ويحتمل وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ لخبير بما في نفوسهم‏.‏

الثاني‏:‏ لخبير، بما تؤول إليه أمورهم‏.‏

سورة القارعة

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 11‏]‏

‏{‏الْقَارِعَةُ ‏(‏1‏)‏ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏2‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ‏(‏3‏)‏ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ ‏(‏4‏)‏ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ ‏(‏5‏)‏ فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏6‏)‏ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ‏(‏7‏)‏ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ ‏(‏8‏)‏ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ‏(‏9‏)‏ وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ‏(‏10‏)‏ نَارٌ حَامِيَةٌ ‏(‏11‏)‏‏}‏

قول تعالى ‏{‏القارِعَةُ * ما القارِعَةُ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها العذاب، لأنها تقرع قلوب الناس بهولها‏.‏

ويحتمل ثانياً‏:‏ أنها الصيحة لقيام الساعة، لأنها تقرع بشدائدها‏.‏

وقد تسمى بالقارعة كل داهية، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يزالُ الذِّين كفروا تُصيبُهم بما صَنَعوا قارعةٌ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 31‏]‏ قال الشاعر‏:‏

متى تُقْرَعْ بمرْوَتكم نَسُؤْكم *** ولم تُوقَدْ لنا في القدْرِ نارُ

‏{‏ما القارعة‏}‏ تعظيماً لها، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الحاقّة ما الحاقّة‏}‏‏.‏

‏{‏يومَ يكونُ النّاسُ كالفَراشِ المبْثُوثِ‏}‏ وفي الفراش قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنه الهمج الطائر من بعوض وغيره، ومنه الجراد، قاله الفراء، الثاني‏:‏ أنه طير يتساقط في النار ليس ببعوض ولا ذباب، قاله أبو عبيدة وقتادة‏.‏

وفي ‏{‏المبثوث‏}‏ ثلاثة أوجه‏:‏

أحدها‏:‏ أنه المبسوط، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ المتفرق، قاله أبو عبيدة‏.‏

الثالث‏:‏ أنه الذي يحول بعضه في بعض، قاله الكلبي‏.‏

وإنما شبه الناس الكفار يوم القيامة بالفراش المبثوث لأنهم يتهافتون في النار كتهافت الفراش‏.‏

‏{‏وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنْفُوشِ‏}‏ والعِهن‏:‏ الصوف ذو الألوان في قول أبي عبيدة، وقرأ ابن مسعود‏:‏ «كالصوف»‏.‏

وقال ‏{‏كالْعِهْنِ المَنْفُوشِ‏}‏ لخفته، وضعفه، فشبه به الجبال لخفتها، وذهابها بعد شدَّتها وثباتها‏.‏

ويحتمل أن يريد جبال النار تكون كالعهن لحمرتها وشدة لهبها، لأن جبال الأرض تسير ثم تنسف حتى يدك بها الأرض دكّا‏.‏

‏{‏فأمّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُه‏}‏ فيه ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ أنه ميزان ذو كفتين توزن به الحسنات والسيئات، قاله الحسن، قال أبو بكر رضي الله عنه‏:‏ وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الحق أن يكون ثقيلاً‏.‏

الثاني‏:‏ الميزان هو الحساب، قاله مجاهد، ولذلك قيل‏:‏ اللسان وزن الإنسان، وقال الشاعر‏:‏

قد كنت قبل لقائكم ذا مِرّةٍ *** عندي لكل مُخاصِمٍ مِيزانُه

أي كلام أعارضه به‏.‏

الثالث‏:‏ أن الموازين الحجج والدلائل، قاله عبد العزيز بن يحيى، واستشهد فيه بالشعر المتقدم‏.‏

وفي الموازين وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ جمع ميزان‏.‏

الثاني‏:‏ أنه جمع موزون‏.‏

‏{‏فهو في عِيشةٍ راضِيةٍ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ يعني في عيشة مرضية، قال قتادة‏:‏ وهي الجنة‏.‏

الثاني‏:‏ في نعيم دائم، قاله الضحاك، فيكون على الوجه الأول من المعاش، وعلى الوجه الثاني من العيش‏.‏

‏{‏وأمّا مَنْ خَفّتْ مَوازِينُه * فأمُّهُ هاويةٌ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الهاوية جهنم، سماها أُمَّا له لأنه يأوي إليها كما يأوي إلى أُمّه، قاله ابن زيد، ومنه قول أمية بن أبي الصلت‏.‏

فالأرضُ مَعْقِلُنا وكانتْ أُمّنا *** فيها مقابِرُنا وفيها نُولَدُ

وسميت النار هاوية لأنه يهوي فيها مع بعد قعرها‏.‏

الثاني‏:‏ أنه أراد أُمّ رأسه يهوي عليها في نار جهنم، قاله عكرمة‏.‏

وقال الشاعر‏:‏

يا عَمروُ لو نَالَتْك أَرْحامُنا *** كُنْتَ كَمن تَهْوِي به الهاوِيَة‏.‏

سورة التكاثر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

‏{‏أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ‏(‏1‏)‏ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ‏(‏2‏)‏ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏3‏)‏ ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ ‏(‏4‏)‏ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ‏(‏5‏)‏ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ‏(‏6‏)‏ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ألْهاكُم التّكاثُرُ‏}‏ في ‏{‏ألهاكم‏}‏ وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ شغلكم‏.‏

الثاني‏:‏ أنساكم، ومعناه ألهاكم عن طاعة ربكم وشغلكم عن عبادة خالقكم‏.‏

وفي ‏{‏التكاثر‏}‏ ثلاثة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ التكاثر بالمال والأولاد، قاله الحسن‏.‏

الثاني‏:‏ التفاخر بالعشائر والقبائل، قاله قتادة‏.‏

الثالث‏:‏ التشاغل بالمعاش والتجارة، قاله الضحاك‏.‏

‏{‏حتى زُرْتُم المقابِرَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ حتى أتاكم الموت فصرتم في المقابر زوّاراً ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار‏.‏

الثاني‏:‏ ما حكاه الكلبي وقتادة‏:‏ أن حيّين من قريش، بني عبد مناف وبني سهم، كان بينهما ملاحاة فتعادّوا بالسادة والأشراف أيهم أكثر، فقال بنو عبد مناف‏:‏ نحن أكثر سيّداً وعزاً وعزيزاً وأعظم نفراً، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكثرهم بنو عبد مناف، فقال بنو سهم إن البغي أهلكنا في الجاهلية فعُدّوا الأحياء والأموات، فعدّوهم فكثرتهم بنو سهم، فأنزل الله تعالى ‏{‏ألهاكم التكاثر‏}‏ يعني بالعدد ‏{‏حتى زرتم المقابر‏}‏ أي حتى ذكرتم الأموات في المقابر‏.‏

‏{‏كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمونَ * ثم كلاّ سَوْفَ تَعلَمونَ‏}‏ هذا وعيد وتهديد، ويحتمل أن يكون تكراره على وجه التأكيد والتغليظ‏.‏

ويحتمل أن يعدل به عن التأكيد فيكون فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ كلا سوف تعلمون عند المعاينة أن ما دعوتكم إليه حق، ثم كلا سوف تعلمون عند البعث أن ما وعدتكم صدق‏.‏

الثاني‏:‏ كلا سوف تعلمون عند النشور أنكم مبعوثون، ثم كلا سوف تعلمون في القيامة أنكم معذَّبون‏.‏

‏{‏كلاّ لو تَعْلَمون عِلْمَ اليَقِين‏}‏ معناه لو تعلمون في الحياة قبل الموت من البعث والجزاء ما تعلمونه بعد الموت منه‏.‏

‏{‏عِلْمَ اليقين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ علم الموت الذي هو يقيني لا يعتريه شك، قاله قتادة‏.‏

الثاني‏:‏ ما تعلمونه يقيناً بعد الموت من البعث والجزاء، قاله ابن جريج‏.‏

وفي ‏{‏كَلاَّ‏}‏ في هذه المواضع الثلاثة وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أنها بمعنى «إلا»، قاله أبو حاتم‏.‏

الثاني‏:‏ أنها بمعنى حقاً، قاله الفراء‏.‏

‏{‏لَتَروُنَّ الجَحيمَ‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن هذا خطاب للكفار الذين وجبت لهم النار‏.‏

الثاني‏:‏ أنه عام، فالكافر هي له دار والمؤمن يمر على صراطها‏.‏

روى زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «يرفع الصراط وسط جهنم، فناج مسلّم، ومكدوس في نار جهنم»‏.‏

‏{‏ثم لَتَروُنَّها عَيْنَ اليَقين‏}‏ فيه وجهان‏:‏

أحدهما‏:‏ أن عين اليقين المشاهدة والعيان‏.‏

الثاني‏:‏ أنه بمعنى الحق اليقين، قاله السدي‏.‏

ويحتمل تكرار رؤيتها وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الأول عند ورودها‏.‏

والثاني‏:‏ عند دخولها‏.‏

‏{‏ثم لتُسْأَلُنَّ يومَئذٍ عن النَّعيمِ‏}‏ فيه سبعة أقاويل‏:‏

أحدها‏:‏ الأمن والصحة، قاله ابن مسعود؛ وقال سعيد بن جبير‏:‏ الصحة والفراغ، للحديث‏.‏

الثاني‏:‏ الإدراك بحواس السمع والبصر، قاله ابن عباس‏.‏

الثالث‏:‏ ملاذّ المأكول والمشروب، قاله جابر بن عبد الله الأنصاري‏.‏

الرابع‏:‏ أنه الغداء والعشاء، قاله الحسن‏.‏

الخامس‏:‏ هو ما أنعم الله عليكم بمحمد صلى الله عليه وسلم، قاله محمد بن كعب‏.‏

السادس‏:‏ عن تخفيف الشرائع وتيسير القرآن، قاله الحسن أيضاً والمفضل‏.‏

السابع‏:‏ ما رواه زيد بن أسلم عن أبيه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ثم لتسألن يومئذٍ عن النَعيم» عن شبع البطون وبارد الماء وظلال المساكن واعتدال الخلق ولذة النوم، وهذا السؤال يعم المؤمن والكافر، إلا أن سؤال المؤمن تبشير بأن جمع له بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة، وسؤال الكافر تقريع لأنه قابل نعيم الدنيا بالكفر والمعصية، ويحتمل أن يكون ذلك تذكيراً بما أوتوه، ليكون جزاء على ما قدموه‏.‏